الخميس، 15 مايو 2014

أحلام تحرس ثروتها - رضوى فرغلي

مقال قديم في مجلة الدوحة الثقافية ، أثار اهتمامي للغاية وظل عالق في ذهني لمدة طويلة ، المقال معبر جدا عن الحالة النفسية لإحد العاملات في أقدم مهنة في تاريخ البشرية .

 أحلام (هكذا سميتُها)، 14 سنة، من بين الحالات التي قابلتها خلال حياتي المهنية، وكانت شغوفة بالمرآة كوسيط يبقيها دائماً مطمئنة على صورة جسم قلقة. نشأت أحلام في بيت لا ينقصه إلا العائلة، بين أب له زوجة سابقة وثلاثة أبناء لا يراهم إلا في المواسم والأعياد. وأم متعالية، تهوى «المنظرة» وجمع المال، وحب الذهب. لا أحد في هذا البيت يهتم بأحد، لا يعرف أحدهم شيئاً عن الآخر.

كانت كل وظيفة «أحلام» في البيت أنها تقوم بالأعمال المنزلية، لتعود الأم من العمل فتكافئها على ما فعلته بمقابل مادي، في حين أنها لا تفكر في الجلوس معها أو محاورتها!

قالت لي بوعي اندهشت منه: «كل شغلتي في البيت أتهد وجسمي يتعب وأقبض فلوس، لحد ما بقيت اعتبرها شغلانة وبتجيب لي قرش»!!

حين جاءتها الدورة الشهرية أول مرة، كان ذلك علامة فارقة في حياتها. لم تجد أماً تتحدث معها أو أختاً كبرى تهتم بتفاصيلها، اقتربت من بنت الجيران لتفضفض لها عن خبرتها الجديدة وتطورت العلاقة بعد ذلك حتى تعرفت من خلالها على شاب جمعتها به علاقة عاطفية، استمرت عدة أشهر، وحين طالبته بالتقدم لخطبتها رفض، فلم تجد أحداً بجانبها سوى صديقتها التي تحبها وبينهما الكثير من الأسرار والحكايات. اتفقتا على الهرب والعيش معاً، بعيداً عن أسرتيهما، احترفتا السهر والخروج كل ليلة إلى الفنادق الكبرى والملاهي الليلية ومحلات الديسكو. تعرفت أحلام على مجموعة من الشباب المصريين والعرب، تمارس معهم الجنس نظير أجر (مئة جنيه في الليلة الواحدة للمصري)، وبالخبرة ولجمالها الواضح، عرفت أن الشاب العربي يدفع أكثر، فذهبت مع صديقتها إلى شقة اثنين من الشباب السعودي للإقامة معهما لمدة أسبوع لتحصل في الليلة الواحدة على مبلغ يتراوح بين 500 إلى 900 جنيه، بخلاف الذهب والهدايا والملابس. تقول: «كانوا كُرما وطيبين جداً، وأهي كلها هدة جسم!».

اختلفت مع صديقتها بسبب المال، فعادت إلى منزل أسرتها مرة أخرى، لتفاجأ بالتواطؤ الضمني، فلم يكن رد فعل الأب قاسياً، فقد اكتفى بتعنيفها وترك المنزل أسبوعاً ثم عاد. أما الأم فانقطعت عن الحديث معها لمدة يومين وبعدها «فرحت بالفلوس والذهب»، الأمر الذي جعلها تعمل قوَّادة لها فيما بعد! لكن بسرعة نَشب الخلاف بينها وبين القوَّادة (الأم)، كانت تستأثر بالدخل كله، فاضطرت «أحلام» لترك البيت مرة أخرى، لتعود إلى شقة استأجرتها، لتواصل رحلة «هدة الجسم» بمفردها، حتى قُبِض عليها وطالبتها الأسرة بعدم الاعتراف على أمها خوفاً على مصلحة إخوتها الصغار، لتواجه أحلام وحدها قدراً قاسياً، وتدفع وجسدها الثمن فادحاً.

حينما اقتربت من تفاصيلها الأنثوية، لفت نظري عشقها للمرآة. كانت لا تمل من النظر إلى جسمها وتفحص وجهها والرقص وتبديل الملابس القليلة التي تمتلكها. لدرجة أن مشرفة المؤسسة حين تغضب منها أو تريد معاقبتها، تنزع المرآة من غرفتها، بعد أن جربت مرة كسرها لكنها نالت لكمة قوية في خدها، وقالت لها أحلام: «خدي الأكل ومتفكريش تقربي من المراية!».

ذات مرة سألتها بحس فكاهي: إيه حكايتك مع المراية؟

 ردت: بطمّن على راس مالي (تقصد جسدها) وضحكت.

سألتها ثانية: بتحبيه؟

 أجابت: ساعات بقرف منه بس هو اللي بيعيشني، حتى هنا في المؤسسة لما بحب أهرب من الأذى بخدم في المطبخ عشان يسيبوني، يعني لو جسمي تعب أو جاله مرض، مش هلاقي آكل!!

هذا الجسد المنهك، الذي اعتاد منذ نعومته تقديم خدمة مقابل أجر، سواء في بيت أسرتها أم الشقق المفروشة، أو الفنادق الرخيصة، أو مؤسسة «الإصلاح»، اعتاد الصمود أمام الاستغلال والانتهاك وأصبح وسيلة لجلب المتعة الزائفة. مرآة تنعكس عليها كراهية الذات والآخر.. تحاول البغي يومياً أن تشاهده من مسافة، تلجأ للمرآة لتطمئنها أن هذه السلعة مازالت بخير، مازالت لا تكشف عن أسراره المؤلمة وأن هذا الجسد مازال تحت السيطرة يؤدي دوره كمرآة ثانية ملاصقة لروحها، مرآة زائفة تختزن الوجع وتظهر الرغبة!

جسد يتدرب تدريجياً على الانفصال عن انفعالات النفس ومشاعرها الحقيقية ليؤدي وظيفة معينة في توقيت محدد مع شخص ما.. هو مرآة تتكون جزيئاتها من الإهمال والنبذ وعدم الإشباع العاطفي في مراحل تكوينه الأولى، ليعود ويعكس ذلك كله في علاقته بالآخر الحاضر.

فالبغي تعلن عن رغباتها وإغواءاتها من خلال هذا الجسد.. هو وسيلتها لجذب الرجل إلى محيطها الأنثوي المهدر، بل إلى صراعاتها الذاتية المختبئة شعورياً أو لا شعورياً.

وإذا كان الجسد مرآة النفس، هل هذا الجسد البغي مجرد مرآة سطحية لا يعكس إلا الشبق الظاهر؟! الإجابة ربما تكون عكس توقع الكثيرين، إذ إن هذا الجسد يتصرف مع عملائه بكامل تاريخه السري وعلاقاته المرتبكة بذاته، والأسرة، والمجتمع.. ما يظهر منه للعين المجردة أو التعامل المباشر، هو انعكاس مزيف أو على الأقل غير صادق لإنسانة اضطربت داخلها كل المعاني.

إن الرغبة التي نراها تفور من جسد البغي ليست إلا صورة شبحية، أو انعكاس مرآوي مضطرب لحب مفقود تبحث عنه المرأة. تعرض جسدها المهجور منذ الصغر، حيث لم تلامسه يد حانية أو تهدهده روح مُحِبة فقررت عرضه للبيع كنوع من الابتعاد عن الألم الناتج من هذا الهجر، لذا هو متبلد عاطفياً، يتواصل بالجنس فقط وليس بالحب، لتجني المال الذي في النهاية قد تمنحه عن طيب خاطر لعشيق أو رجل يمنحها قلبه.. وكأنها تشتري الحب مرة أخرى بالمال وتستعيد علاقة أولية خسرتها.


من جانب آخر، تعكس هذه المرآة (الجسد) عدوانية ضمنية على هذا الآخر (الرجل) الذي تسلبه ماله وشغفه وقوته وتبادله بجسد ميت عاطفياً لا روح فيه ولا مشاعر وإن وجدت فهي زائفة لزوم الصفقة، وكأنها تؤكد في كل مرة تمارس فيها الجنس أنها قادرة على هزيمة رجل ما حرمها الاهتمام والرعاية من خلال إخضاع كل الرجال لها، فتشعر بنشوة الانتقام العاطفي لهذا الجسد المنهك بالحرمان أكثر من ذروة الممارسة. وكأن الفعل الجنسي هنا ليس فعلاً دينامياً أو تفاعلياً، إنما بمثابة مرآة للصراعات الداخلية للمرأة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق